وقع الفنان مروان حاجي، أمس (الجمعة)، بالمركب السينمائي “ميغاراما” بالدار البيضاء، على ليلة فنية صوفية روحانية ولا أروع، سافر من خلالها الجمهور الحاضر، في رحلة تراثية أصيلة، بلمسة حداثية عصرية، لا يمكنها إلا أن تقرب الملحون و”القصايد” وموسيقى “عيساوة” و”حمادشة”، أكثر إلى القلوب، ليس فقط في ما يتعلق ب”المولوعين”، ولكن حتى بالنسبة إلى الشباب الذي يجد هذا النمط الموسيقي “قديما” و”متجاوزا” ولا يغري بالاستماع إليه.
لقد أثبت مروان حاجي، ليلة أمس، أن ما كان يقوله عن مشروعه الفني الجميل والطلائعي “حضرة جاز”، فعلي وحقيقي، وليس مجرد كلام في الهواء وخطابا للاستهلاك الإعلامي فقط. فقد كان الجمهور فعلا أمام “فوزيون” فيها الكثير من الاجتهاد والإبداع والعطاء، لا على مستوى التوزيع والموسيقى فقط، بل حتى على مستوى الديكور والملابس والأداء والرؤية الفنية. فكان بديهيا أن يكون التفاعل جميلا والحفل ناجحا بامتياز.
لقد اجتمع في هذا الحفل الرمضاني، ما تفرق في غيره. رائحة “العود” والبخور تؤثث المكان. أصوات المقدمين وإلقاؤهما المميز، (الشاعر الغنائي الأصيل نبيل الجاي والإعلامية المحترمة هانية قسومي) يقعان في القلب موقع الحنين إلى الزمن الجميل.. التمازج الرائع بين إيقاعات “الطعارج” و”البندير” والساكسوفون والعود والقيثارة تحملك إلى عوالم أخرى مختلفة ومنسجمة في الوقت نفسه.. الألوان المبهرة والأزياء التقليدية المنسوجة بخيوط “تامعلميت” تذكر بعظمة حضارة وتاريخ مغرب غني متنوع متعدد .. ثم يأتي الصوت الجليل لمروان حجي، ليمنح هذه الملحمة الرائعة، إحساسا لذيذا بالارتقاء إلى السماوات العليا والحلول في أرواح غريبة، لا تنتمي إلى هذا العالم المادي القاسي.
لقد غامر مروان حاجي، ومعه صديقنا المنتج المهدي بلخياط، من أجل إخراج هذا العمل الفني الجميل إلى الوجود، في ساحة فنية تضج بأشباه الفنانين وأصحاب “الأدسنس” ومشاهدات “اليوتوب” ومغنيي “تيك توك”. ولنا أن نتخيل حجم المعاناة من أجل إيجاد الدعم والمساندة، سواء من الشركات المحتضنة أو من الجهات المعنية بتشجيع الفن والثقافة، لجولة فنية موسيقية تشتم فيه رائحة التراث والأصالة، بعيدا عن “حك جر” و”فوق الشواية” و”حك ليلي نيفي” وغيرها من الترهات الضاربة. لهما، وللمايسترو المبدع المهدي لزرق وجميع الموسيقيين الذين رافقوه في هذه السمفونية الأنيقة، ترفع القبعات. لهم كلهم واجب الاحترام والتقدير، ومعهم شيخ الكلام نبيل الجاي، والفرقة العيساوية “شباب فاس” رفقة “الحضار” المتألق الهاشمي من مدينة مكناس، والمدير الفني للحفل، الفنان الاستعراضي الموهوب والراقي شرف الناجي، ومصمما الأزياء كمال بوطيور وزينب بنسعيد، وكل من ساهم من قريب أو بعيد، في هذا الإبداع، و”عرق ونشف” من أجل أن يخرج إلى الوجود.
ليس من السهل أبدا المراهنة على الرقي في زمن الرداءة وأغاني “الكوكوت مينوت”. وحفل مروان حاجي أعطانا شحنة من الأمل والتفاؤل في مستقبل أفضل للفن المغربي، الذي بإمكانه أن يصل العالمية ويمنح إشعاعا كبيرا للبلاد في جميع المحافل، إذا توفرت له السبل والإمكانيات لذلك. إنه أعظم استثمار يمكن أن يكون، لأنه سيرتقي بالذوق ويعلي من شأن الإبداع ويكرس هويتنا كبلد حاضنة لأجمل الأصوات وأفضل الموسيقيين في العالم العربي، بكل افتخار، وبدون تواضع.
على المسؤولين في مغربنا، الذي يشكل استثناء بين البلدان، أن يثقوا في المنتوج الوطني الموسيقي، وقدرته على البيع والترويج لعلامة “صنع في المغرب”. عليهم أن يجندوا جميع الإمكانيات من أجل دعمه وتشجيعه ومنحه المكانة الرفيعة التي يستحقها. لأنه هويتنا وواجهتنا أمام العالم. ولأن المجتمعات تتطور بفنها وموسيقاها وثقافتها، وليس فقط ببنياتها التحتية. عليهم أيضا أن يعملوا من أجل صناعة فنية ثقافية حقيقية، تنخرط فيها جميع المؤسسات والشركات والمقاولات ورجال الأعمال بميزانيات ثقيلة، حتى يتمكن فنانونا في المغرب من العيش مرتاحين، ويكرسوا جهدهم لإبداع أعمال فنية جميلة، لا أن يلهثوا وراء “السبونسور” و”يتبهدلوا” من أجل كراء القاعات والبحث عن المشاركة في مهرجانات أو أعراس أو المرور في تلفزيونات. يجب أن يعيش الفنانون في المغرب فوق أبراج عاجية فعلا، وإلا تحولوا جميعهم إلى “لقايجية” و”جوايقية”، كل همهم يتركز حول مبالغ “الغرامة” و”ترشرش”.
مثل مروان حاجي كثيرون في مغربنا. يملكون العديد من الأفكار المبدعة ويحملون طموحا ورغبة قوية في النجاح والتألق على المسارح، ومتفوقون على “أجدعها” عمرو دياب أو شيرين أو أصالة أو نانسي عجرم. لكن تعوزهم الإمكانيات وتخونهم الشجاعة في بلد، الإنتاج الفني فيه مغامرة غير محسوبة العواقب، وقد تؤدي إلى الإفلاس. وأحيانا إلى الموت قهرا، مثلما وقع لعندليبنا الراحل عبدو الشريف.
التعليقات 0