Site icon H-NEWS آش نيوز

اهبيشة وعبدو الشريف والآخرون

نورا الفواري 2024

يسقط موسيقيونا وفنانونا تباعا ويرحلون عن عالمنا، تاركين وراءهم غصة في قلب محبيهم وعشاق فنهم، لأنهم ذهبوا دون أن يتمكنوا من أخذ حقهم “كاملا مكمولا” قيد حياتهم، بعد أن تنكر لهم المسؤولون في هذا البلد السعيد، الذين يحبون الأجنبي، أكثر من حبهم لأبناء وطنهم.

آخر الراحلين كان الموسيقي وعازف الكمان أحمد اهبيشة، الذي ذهب ضحية حادث سير خطير بالدار البيضاء، والذي لفظ أنفاسه في مستشفى ابن رشد الشهير ب”موريزكو” قبل أيام، بعد إصابته بسكتة دماغية لم تنفع العمليات الجراحية التي أجريت له، في إنقاذه من تبعاتها، هو الذي أفنى عمره من أجل تأمين حياة كريمة لابنتيه وعائلته، حتى ولو تطلب منه الأمر الاشتغال في “كباريهات” زبناءها لا يعرفونه ولا يقدرون قيمته.

أحمد اهبيشة، لمن لا يعرفه، كان واحدا من أهم وأفضل عازفي الكمان في العالم العربي كله. شارك في حفلات فنية كبرى داخل وخارج المغرب، رافق فيها نجوما كبار وأبان فيها عن موهبة ومقدرة عالية في ملاعبة أوتار “كمنجته”، جعلته المطلوب رقم 1 لجميع الفنانين المغاربة في حفلاتهم الكبرى.

أحمد اهبيشة كان نجم مطعم “آرت بالاص” الطربي الجميل في الدار البيضاء. بل إنه العازف الذي كان يغطي على المغني نفسه، حين يعزف وراءه لحنا من “ريبيرتوار” الخالدات، سواء تعلق الأمر بالأغنية المغربية أو العربية، إلى درجة أن الزبناء من “السّمّيعة” (وأغلبهم كان كذلك)، كانوا يقفون له تصفيقا واحتراما لإبداعه ويطالبونه بالإعادة، وكلهم “تسلطن” من شدة الطرب.

اضطر اهبيشة إلى الرحيل عن مطعمه الأصيل بعد أن تلقى عرضا سخيا من فضاء موسيقي آخر، رواده من محبي “الشيشة” واستراق النظرات بين الطاولات و”التصياد”. والزبناء الذين يقصدونه آخر همهم الموسيقى والاستماع. وبعد أن كان أحمد نجما وصاحب بيت، أصبح موسيقيا يؤثث الفضاء فقط، قبل أن يقفل “الكباري” أبوابه ويجد نفسه باحثا من جديد عن عمل، هو العازف الذي لا يشق له غبار، وصاحب الكرامة وعزة النفس التي تمنعه من استجداء لقمة العيش.

أحمد اهبيشة، ومثله عدد من الموسيقيين الموهوبين والكبار، والفنانين كذلك، مضطرون إلى خوض غمار حياة الليل، لكي يتمكنوا من العيش بكرامة في بلاد تأكل أبناءها وتتنكر لهم، في الوقت الذي عليهم أن يقعدوا معززين مكرمين يختارون بعناية مع من يشتغلون وأين، ويفرضون “الكاشي” الذي يليق بفنهم وموهبتهم، ويمنح لهم بدون أدنى تردد أو تفاوض.

مثل أحمد اهبيشة غائبون عن التلفزيون وعن الإعلام وعن المهرجانات التي لا تستضيف سوى الأجانب ومغنيي “حك جر” وبعض الظواهر الكارثية الموجودة على “تيك توك” و”يوتوب”، بدعوى أن لديهم جمهور عريض. مثله كثيرون مضت بهم سنوات العمر وما زالوا يدورون على “الكباريهات” كل ليلة من أجل “لقجة” و”غرامة” تجود بها أيادي “من هب ودب” من رواد الليل والثمالى والسكرانين.

قبل أحمد اهبيشة، رحل عمر الشريف، وهو فنان جميل صوته شجي، سبق أن نال جائزة أحسن صوت في مهرجان الأغنية العربية بالقاهرة، قبل أن يطلق الطرب بالثلاث ويتوجه نحو “الشعبي” لأنه النوع الموسيقي الوحيد “اللي كا يوكل طرف دالخبز” في المغرب، ويشتغل في “الكباريهات” والأعراس، ثم يقضي أواخر حياته باحثا عن عمل في مطعم أو ملهى ليلي، من أجل تأمين حياة أسرته الصغيرة، قبل أن يقضي قهرا بسكتة قلبية.

قبله أيضا العندليب المغربي عبدو الشريف، الذي غاب عن الأضواء سنوات، قبل أن يعود في حفل فني ضخم كان يستعد له قبل أن يصاب بسكتة أيضا، بعد أن شعر بالغبن و”الحكرة” لأن المستشهرين لم يمنحوه الميزانية الكافية ليحيي سهرة في قيمة اسمه وصوته الذي لعلع عاليا في سماء “الأوبرا” المصرية معلنا عن ولادة حليم جديد، مغربي هذه المرة. وحتى حين تم الاتصال بوزارة الثقافة لكي تقوم بالواجب، بعد أن أدخل المستشفى في حالة حرجة، سأل الوزير بنسعيد الذي يعرف جيدا منال وطوطو وباقي “الشلة”: “شكون هاد عبدو الشريف؟”. والأكيد أنه لا يعرف عمر الشريف أيضا ولا أحمد اهبيشة بالطبع.

عيب أن يظل كبار فنانينا وموسيقيينا، بعد أن وصلوا مرحلة حرجة من العمر، يجولون على المطاعم والملاهي الليلية من أجل أن يجدوا ما ينفقون به على أنفسهم وأسرهم، في الوقت الذي تنظم في المغرب مهرجانات وحفلات وسهرات لا يشاركون فيها، إما لأن المنظمين يقترحون عليهم “كاشي” ضعيف جدا لا يليق بمكانتهم، في إطار سياسة “التشياط”، أو لأنهم لا يجيدون “التبلحيس” و”لحيس الكابة”، التي يتقنها أشباه الفنانين ومنعدمو الموهبة، الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف.

رجاء أعيدوا للفنان هيبته واحترامه. لا تمنحوه بطاقة لا تغنيه من جوع. لا تضطروه إلى “اللقيج”، ولا إلى استجداء دعم وزاري بئيس. افتحوا له أبواب العمل على مصراعيها. “كبّروا بيه” في المهرجانات والتلفزيونات والبرامج ووسائل الإعلام. أكرموه ب”كاشي” محترم. سلطوا عليه الأضواء. قدروا موهبته حق قدرها واحترموا كبريائه وأنفته وحتى جنونه. فالبلد الذي لا يحترم فنانيه، لا يحترم هويته وانتماءه.

Exit mobile version