ربع قرن على جلوس الملك الثالث والعشرين في سلالة الدولة العلوية على العرش. اتسمت فترة حكم الملك محمد السادس بالعديد من التحولات والتغيرات الجوهرية التي مست مختلف نواحي الحياة في المغرب، لم تستثن طريقة الحكم ونظامه، فالمغاربة الذين كانوا يخافون الملك الحسن الثاني أصبحوا يخافون على الملك محمد السادس، بسبب امتداده الشعبي وصورته التي بناها خلال 25 سنة من الحكم. لقد نجح الملك خلال هذه الفترة في إعادة بناء التصورات الذهنية للمغاربة حول الأمن، واتخذ لتحقيق ذلك مبادرات شجاعة صالحت المغاربة مع مؤسساتهم الأمنية وجعلت من الأمن إنتاجا مشتركا بين الدولة والمجتمع، من خلال تكريس قواعد جديدة في العلاقة بين الطرفين.
خلال فترة حكم الملك محمد السادس، يمكن التوقف عند ثلاث محطات أساسية شكلت لحظات تأسيسية للفعل الأمني بالمملكة، ساهمت في بناء تصورات جديدة حول المؤسسة الأمنية، ساهمت في تعزيز ثقافة حقوق الإنسان وتكريس قواعد الحكامة الأمنية وإعطاء العمل الأمني وظائف أخرى، حيث برزت الديبلوماسية الأمنية والمفهوم الجديد للسلطة والشرطة المجتمعية والحكامة وغيرها… ثلاثة تواريخ فارقة إذن..
شكل خطاب المفهوم الجديد للسلطة بتاريخ 1999 أولى لحظات إعادة بناء عمل مؤسسات السلطة العامة في البلاد. وقد تزامن هذا الخطاب مع السنة الأولى لتولي الملك محمد السادس الحكم، ما بعث رسائل واضحة حول نوايا العهد الجديد وتوجهاته نحو تكريس مفاهيم جديدة تعيد صياغة سلوك السلطة العامة على أساس محدد “القرب”. فالدعوة إلى مفهوم جديد للسلطة كان يعني أولا القطيعة مع كل المفاهيم القديمة، وإحداث تغيير في سلوك المرفق العمومي، وخاصة المرفق الأمني، باعتبار أن الخطاب كان موجها لرجال السلطة. لقد شكل الخطاب الملكي مقدمة لتحولات كبرى سوف تشهدها مؤسسات إنفاذ القانون في البلاد، فكان لها أثر عميق في تكريس ثقافة حقوق الإنسان وتعزيز الحريات العامة.. لقد جعل الملك من “مسؤولية السلطة في مختلف مجالاتها هي أن تقوم على حفظ الحريات وصيانة الحقوق وأداء الواجبات وإتاحة الظروف اللازمة لذلك على النحو الذي تقتضيه دولة الحق والقانون”.. لم يتوقف هذا التحول رغم صدمة الهجمات الإرهابية التي هزت الدار البيضاء في ماي 2003.
اللحظة الثانية، تزامنت مع المراجعة الدستورية لسنة 2011 حيث شكلت هذه المحطة فرصة لتنزيل مجموعة من التوصيات التي ورد التنصيص عليها في التقرير النهائي لهيئة الإنصاف والمصالحة. اقتنص المغرب أول لحظة لإدراج توصيات الحكامة الأمنية في أسمى قانون للبلاد، الدستور. لقد عمل واضعو القانون على تكريس هذه القواعد وجعلوا من لحظة الإصلاح الدستوري موعدا جديدا لتأصيل النزوع الحقوقي لعمل المؤسسة الأمنية، كما امتدت مواد الدستور لمجالات تهم سلامة الإجراءات الأمنية وتعزيز الرقابة القضائية على أعمال قطاع الأمن ومأسسة إنتاج القرار الأمني عبر إحداث المجلس الأعلى للأمن، بصفته هيئة للتشاور بشأن استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد وتدبير حالات الأزمات والسهر على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة. لقد شكل إحداث هذا المجلس انعكاسا كاملا للإرادة السياسية الرامية إلى تعزيز دولة المؤسسات، وجعل ميكانيزمات إنتاج القرار الأمني واضحة، بما يعزز الشفافية وديمقراطية الأمن.
في خطاب العرش لسنة 2017، قدم الملك صيغة جديدة للمفهوم الجديد للسلطة، وانتقد كل محاولات استهداف المؤسسة الأمنية بواسطة خطابات التدليس والعدمية والادعاءات الكاذبة للمس بصورة الأمن. وقد شكل هذا الخطاب الملكي اللحظة التأسيسية الثالثة في مسار بناء قطاع الأمن على قاعدة الالتزام الثابت بتطبيق القانون واحترام المؤسسات وضمان أمن المواطنين وصيانة ممتلكاتهم. دافع الملك في خطابه عن المؤسسة الأمنية ونوه بجهودها والتزامها، وانتقد بعض العدميين الذي يسوقون لخطاب “المقاربة الأمنية” في تدبير الأحداث. هي المقاربة نفسها التي تحولت اليوم إلى استراتيجية تطلبها كبريات الأجهزة الأمنية في العالم عبر عقد شراكات واتفاقيات مع المغرب، من ضمن أهدافها تدبير الأزمات وإدارة الأحداث الكبرى ومكافحة الإرهاب والحد من الجريمة عبر الوطنية، وهو ما يطلق عليه اليوم بالديبلوماسية الأمنية.
لا يمكن فصل التطور الذي شهدته السياسات والمؤسسات الأمنية في المغرب عن سياق التحولات التي عاشتها المملكة خلال ربع قرن من حكم الملك محمد السادس، فكل شيء يبدو مخططا له ويسير نحو بناء دولة الحق والقانون، دولة مؤسساتها الأمنية تحترم الحقوق والحريات ما لم تكن هذه الحقوق وسيلة لابتزاز الدولة.
بقلم: الدكتور إحسان الحافظي (كاتب صحافي وأستاذ جامعي)