عمل سينمائي جديد للمخرج هشام العسري يأتي في انسجام تام مع مشروع إبداعي متكامل المعالم ومنحاز لأشكال تعبيرية متنوعة. ينتقل في تناغم مؤسس فكريا من السينما إلى الرواية أو المسرح أو الرسم. فبضعة أيام قليلة قبل حفل تقديم فيلمه السينمائي الطويل (العاشر) “مروكية حارة”، حضر إلى إحدى المكتبات الكبرى بالعاصمة لتقديم ومناقشة كتابه الجديد “حياة العرب كمادة”.
والاشتغال على إحدى الأدوات التعبيرية، لا يتم بشكل منعزل أو في خطوط متوازية، بل نجد كل شكل فني يتغذى بما راكمه “المؤلف” من نحت لأدوات تعبيرية مجربة هنا وهناك. توليفة إبداعية أغامر بنعتها بجمالية العبور. فالرواية مكتوبة بشكل سينمائي، والفيلم يتغذى ببعد درامي في رسم الشخوص وشحنها بغنى شبه مسرحي ورسومه تأخذ من ذا وذاك في إحالات تستنفر ذكاء المتلقي وتعبئة ذاكرته وخياله. نعم جمالية العبور لأنها كتابة عابرة للصيغ الفنية الجامدة والنمطية منها بالخصوص.
و”مروكية حارة” فيلم تأكيدي لهذه الفرضية. كتابة سينمائية مستفزة، مشاكسة ومضادة للكسل الفكري. تحمل معاول فنية لهدم الأسيجة المميزة للكتابة الكلاسيكية لتنتقل بنا من السيناريو الأحادي الذي يسير في خط مستقيم من البداية إلى النهاية إلى السيناريو المتشابك: مركب ومتطور بشكل عنكبوتي أكاد أقول بأنه يكتب أمامنا من طرف الشخصية الرئيسية التي لن تتردد في أحد المشاهد التفاعلية في التوجه مباشرة لمخاطبة المتلقي. ولا غرو في ذلك إذا علمنا أن هذه “المروكية” هي بنت الشبكة العنكبوتية. فالفيلم استمرار بأدوات أخرى للسلسلة التي أنجزها هشام العسري وتم عرضها عبر الوسيط الرقمي.
والفيلم ينطلق من ذلك ولا يكرره. فهو عمل قائم الذات يشتغل بمنطقه الداخلي في أفق إبداعي يضيف لبنة أخرى لسينما هشام العسري. بسمة رئيسية تجعل من الفيلم إمكانية تصنيفه ضمن الكوميديا السوداء أو السخرية الحادة. نوع من الكاريكاتير سمعي بصري ينسج خطابا ينتقل من التصريح إلى التلميح في سياق يتوخى، بأدوات السينما، تفكيك (بمفهوم جاك دريدا) مجتمع ما بعد حداثي. فخذيجة (أداء رائع لفدوى الطالب) تتحرك في سياق حكائي يأتي بعد نهاية السرديات الكبرى واندحار اليقينيات المعرفية وموت البطل المنقذ. نتتبعها في يوم عادي لشابة بيضاوية تصارع من أجل “موقع تحت الشمس”. مسار عفوي وعشوائي. واقعي تارة وغرائبي في أكثر من مرة. وذلك لأن الواقع عند هشام العسري أغرب دائما من الخيال.
كل لقطة، كل مشهد، يستمد مشروعيته الدرامية من سيرورة داخلية ومن مرجعية “خارج النص”، أي من موروث متعدد المشارب يعكس التكوين الثقافي الواسع للمخرج. عماده إحالات سينيفيلية وبصرية محلية وكونية وقودها ومحركها التشبع الأصيل بالثقافة البيضاوية الدفينة القادمة من الهامش، من وراء الشمس أو من وراء الجدار (هناك لقطة لم أتردد في نعتها ب “7أكتوبر” عندما تتعرض سيارة في الجهة الراقية من الجدار لرشق بمادة خاصة جدا من الجهة الأخرى). فرجة سينمائية تتغذى بالمحلي على مستوى المبنى لتعانق الكوني على مستوى المعنى.
بقلم: محمد بكريم (ناقد سينمائي)
التعليقات 0