لم يكن الراحل عبدو الشريف، فنانا عاديا. كان غريبا واستثنائيا في اختياراته ومواقفه وشخصيته. ووراء الكاريزما التي كان يتمتع بها على خشبة المسرح، وقوة الصوت الذي حباه الله به، كان يكمن قلب رقيق وإنسان في غاية الحساسية والهشاشة، لا يتحمل أن يجرح مشاعره أحد، أو ينتقص من قيمته وتقديره لنفسه شخص، مهما علا شأنه. لذلك، ربما.. غادرنا مبكرا.
عزة النفس
لم يكن عبدو الشريف يفهم في “اللقجة” و”التبزنيس” و”البيع والشرا” و”التبلحيس”. لم يكن يهتم ل”البوز” وأرقام المشاهدات على “يوتوب” أو يتطلع للظهور في برنامج أو أن تكتب عنه مجلة أو جريدة، كما لم يكن مهتما لحفلات أو مهرجانات، إلا إذا قدرته حق قدره. لم يكن المال هاجسه بقدر ما كان يهمه احترام فنه وموهبته، حتى ولو كان لا يملك درهما في جيبه. كانت نفسه عزيزة، في مغرب يعاقب عزة النفس ويعتبرها نوعا من “العياقة” والغرور والكبرياء “الخاوية”.
الفاسي الكازاوي
نشأ عبدو الشريف في بيئة “سميعة” ومولوعة بالملحون والآلة والطرب. لكنه تشرب حب الفن وورث الحس الموسيقي العالي والذوق الراقي، من والدته، التي كانت تجمعه بها علاقة خاصة. فقد كانت لالة فوزية تملك صوتا جميلا جدا، وعرفت بأداءها الرائع لأغاني أسمهان، رغم أنها لم تدرس الموسيقى، بل كانت تهوى الغناء والدندنة في البيت وأمام الأصدقاء والمقربين.
ولد عبدو الشريف في 26 غشت من سنة 1966. ورغم أنه “فاسي” الأصول، إلا أنه رأى النور في البيضاء وشب متشبعا بثقافتها ورقي أهلها. والده كان رجل أمن، ولديه إخوة من والده لم يتعرف إليهم إلا في السنوات القليلة الماضية. فكانت والدته هي الأم والأب والأخت والصديقة. كانت كل شيء في حياته.
كريم التادلاوي رفيق الدرب
يقول كريم التادلاوي، أقرب أصدقاء عبدو الشريف ورفيق دربه، في اتصال ب”آش نيوز”، حول علاقة الفنان الراحل بوالدته: “لقد كان ابنها الوحيد. وجمعت بينهما علاقة صداقة قوية. كان يحكي لها كل شيء عن حياته ومغامراته. ولم يكن بينهما أية حواجز مثل تلك التي كانت تجمعنا بأمهاتنا، مهما كانت درجة قربنا إليهن. لذلك فهي لم تصدق إلى اليوم أنه رحل، وترفض أن تأكل أو تشرب شيئا، بل كل ما ترغب فيه هو أن تلتحق به إلى الدار الأخرى، لأنها لا تستطيع أن تتحمل حياتها بدونه”.
تعرف كريم التادلاوي على عبدو الشريف في مرحلة الدراسة. كان يلتقيه في مقهى “نياغارا” الشهير بحي الزيراوي بالعاصمة الاقتصادية، حيث كان الطلبة يجتمعون لاحتساء القهوة والشاي والتحضير للامتحانات. سمعه يدندن ذات مرة ويغني ويعزف الإيقاع على طاولة المقهى، فأعجب بصوته وبادره بالحديث. “قلت له إنني أغني أيضا وأعزف العود. فطلب مني أن أسمعه شيئا. دعوته إلى منزل الوالدة وأسمعته بعض القطع، ومن تلك اللحظة ابتدأت صداقتنا التي ظلت صامدة إلى حين وفاته”، يقول التادلاوي.
جلباب عبد الحليم
علاقة عبدو الشريف بعبد الحليم حافظ، الذي انتقده كثيرون بسببه واعتبروا أنه فشل في الخروج من جلبابه طيلة مساره الفني، وراءها قصة أيضا. فقد كانت أول هدية تلقاها من حبيبته أيام المراهقة، أسطوانة لحليم. وكانت تلك الشرارة التي أشعلت نار شغفه بالعندليب الأسمر الذي كان يؤدي أغانيه بدرجة عالية من الإتقان، جعلت المصريين أنفسهم يلقبونه ب”العندليب الحاضر”.
عبد الحليم كان أيضا وراء العناية الملكية التي أولاها له الحسن الثاني، حين غنى أمامه لأول مرة في القصر، أغنية “كامل الأوصاف” للعندليب، الذي كان الملك الراحل يعشق أغانيه. أعجب الملك الحسن بأداء عبدو الشريف، إلى درجة سير إلى جانبه الفرقة الموسيقية، وطلب منه إعادة مقاطع منها كلما انتهى من الغناء، قبل أن يعطي تعليماته بدعم الفنان الموهوب وتقديم جميع أنواع المساعدة له، يحكي كريم التادلاوي، في الاتصال نفسه مع الموقع.
نجم الأوبرا المصرية
ولولا إتقانه لأغاني وأسلوب أداء عبد الحليم حافظ، لم يكن عبدو الشريف ليقف على خشبة “دار الأوبرا” المصرية، التي لم يكن فنانون مصريون أنفسهم يحلمون بالوقوف عليها. يقول التادلاوي: “كانت أولى حفلاته في دار الأوبرا ناجحة بكل المقاييس. ونقلت السهرة مباشرة على التلفزيون المصري لتنقلب مصر رأسا على عقب، ويصبح الشارع المصري يهتف باسم عبدو الشريف ويمنحه الاعتراف والشعبية، إلى درجة أن تذاكر حفلاته كانت تباع شهرا قبل موعدها، ولم يكن من السهل العثور عليها حتى في السوق السوداء. كما كانت الطرقات تقفل وتشل حركة المرور، ليلة الحفلة، بسبب الجمهور الغفير الذي كان يقبل عليها”.
فنان النخبة والقصر
لقد كان عبدو الشريف فنان النخبة و”الديور لكبار” والقصر. وعرف المجد والشهرة والنجومية وهو في ريعان شبابه. لذلك لم يكن من السهل عليه أن يرضى بأي شيء، أو يقبل بأي عرض، أو يغني أي أغنية. ولذلك كان قليل الإنتاج، نادر الظهور. ولم يكن يحب أن يغامر باسمه وسمعته الفنية، مهما كانت الإغراءات. وحتى حين اتصلت به إدارة مهرجان “موازين” لإحياء حفل، رفض العرض، لأن “الكاشي” كان أقل مما يأخذه فنانون مصريون وأجانب، هو الذي منحه الملك محمد السادس وساما ملكيا في مدينة العيون، في الذكرى الأربعينية للمسيرة الخضراء، وتوجته هوليوود الشرق عندليبا مغربيا جديدا.
هجرة وانعزال
لقد كانت نعمة النجاح الذي حققه عبدو الشريف نقمة عليه في الوقت نفسه. ولم يجد في وطنه، التقدير الذي وجده في بلدان الناس. بل حتى وزارة الثقافة، في عهد محمد الصبيحي، رفضت الملف الذي قدمه من أجل الحصول على الدعم المخصص للأغنية، وهو ما زاده حنقا وإحباطا على أوضاع الساحة الفنية في المغرب، فغادر إلى فرنسا غير آسف.
عن هذه الفترة يقول كريم التادلاوي: “لم يكن راضيا على وضعه كفنان في المغرب، لذلك هاجر إلى فرنسا. على الأقل، لا يعرفه هناك أحد. أراد أن يعيش حياته معتكفا منعزلا. ورغم ظروفه القاسية، كان يرفض العروض التي تقدم إليه لإحياء السهرات والمهرجانات، لأن ثمنها كان بخسا جدا ولا يليق بقيمته. لقد كانت كرامته فوق كل اعتبار، ولم يكن يحب أن يكون خيارا بديلا أو اسما في آخر القائمة”.
لقد غادر عبدو الشريف حياتنا وفي قلبه غصة. غادر في اليوم نفسه الذي كان سيحيي فيه سهرته التي نفذت تذاكرها قبل شهر من موعدها. غادر بعد أن توقف قلبه الجميل عن النبض، ولم يعد يتحمل إكراهات إحياء حفل ضخم لا يواكبه “سبونسورينغ” في قيمة ما يقدمه من فن راق. إنها مشيئة الأقدار. الله وحده يعلم تصاريفها.
التعليقات 0