إخفاق وزير أم فشل دبلوماسية؟
تحليل لجدل انتخابات القمة الإفريقية 38 ودور الدبلوماسية في إدارة الأزمات الإفريقية

شهدت أروقة الاتحاد الإفريقي، بمناسبة انعقاد القمة الإفريقية 38، معارك دبلوماسية حامية الوطيس، على المناصب القيادية المخصصة لشمال أفريقيا، بين ثلاثة من أكبر دول شمال إفريقيا والمنطقة العربية وكل من المغرب والجزائر ومصر، حيث اندلعت مواجهة دبلوماسية بين المغرب والجزائر في أديس أبابا خلال اجتماع المجلس التنفيذي للاتحاد الإفريقي، خلال اجتماع وزراء الخارجية لانتخاب قيادة رفيعة المستوى لمفوضية الاتحاد الإفريقي، وتحول التنافس الثنائي إلى صراع مرير على مقعد في مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي، من خلال محاولة كلا الطرفين عرقلة بعضهما البعض. مما دفع، بعد سبع جولات انتخابية على مقعد شمال أفريقيا، مفوضية الاتحاد الإفريقي إلى تأجيل العملية الانتخابية إلى شهر مارس 2025، أملا في التوصل إلى توافقات تنهي هذه الأزمة. وما إن قررت المفوضية تأجيل هذه الانتخابات، حتى اندلعت معركة دبلوماسية أخرى على منصب نائب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي. حيث رشح المغرب لطيفة أخرباش التي تشغل حاليا منصب رئيسة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، فيما رشحت الجزائر الدبلوماسية سلمى مليكة حدادي، أما مصر فرشحت الدبلوماسية حنان مرسي، لتنتهي هذه المعركة بحصول حدادي على منصب نائب الرئيس الجديد الدجيبوتي محمود علي يوسف، الذي بات يتولى رئاسة الاتحاد الإفريقي بدلا من التشادي موسى فكي. وعلى الرغم من طبيعة هذا المنصب الإدارية، ومحاولة التبرير والتقليل من أهمية هذا المنصب والتهكم على احتفال الخصوم به، وتصويره على أنه مجرد تصفية حسابات داخلية وتنفيسا لأزمة داخلية للدولة الجارة، إلا أن الواقع يفرض إعطاء هذا الحدث قيمته الحقيقية، وطرح تساؤل حارق حول إخفاق المغرب في هذه المعركة الدبلوماسية الإفريقية ضد الخصم الجزائري؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما هو سبب هذا الإخفاق في ظل الانتصارات الدبلوماسية التي حققها المغرب إقليميا ودوليا؟
1-مؤشرات الإخفاق الدبلوماسي
منذ عودة المغرب رسميا إلى الاتحاد الإفريقي عام 2017، بعد سنوات من سياسة الكرسي الفارغ، أصبح يلعب دورا دبلوماسيا محوريا في إدارة الأزمات الإفريقية، من خلال دعم جهود الأمن ومكافحة الإرهاب، خصوصا في منطقة الساحل والصحراء، وإطلاق اتفاقيات تعاون أمني وعسكري مع دول غرب إفريقيا لتعزيز الاستقرار الإقليمي. هذه الإنجازات، التي تم تسويقها إعلاميا بشكل واسع، عززت الشعور الوطني لدى المغاربة تجاه قضيتهم الأولى، قضية الصحراء المغربية، باعتبارها قضية وجودية وليست مجرد خلاف حدودي. لكن رغم كل هذه النجاحات، حذر الملك محمد السادس في خطاب المسيرة الخضراء في 6 نونبر 2021، من الوقوع في فخ الإطمئنان المفرط، مشددا على أن هذه المكتسبات لا تعني نهاية التحديات، بل تستوجب مزيدا من اليقظة والعمل الدبلوماسي الحازم. وأكد أن الشراكات الدولية للمغرب يجب أن تبنى على مواقف واضحة بشأن وحدته الترابية، مع التحذير من أي مناورات محتملة قد تستهدف هذه المكاسب. وفي خطاب الذكرى 47 للمسيرة الخضراء في 6 نونبر 2022، دعا الملك إلى الانتقال من منطق التدبير إلى منطق التغيير في ملف الصحراء، معتبرا أن المغرب يجب أن ينتقل من الدفاع التقليدي إلى فرض الأمر الواقع على المستوى الدولي، مستفيدا من نجاحاته الدبلوماسية والاقتصادية. لكن يبدو ، أنه بخلاف هذه النظرة الملكية الاستباقية، بدا أن الجهات المسؤولة عن الدبلوماسية المباشرة داخل الحكومة، وبالأخص وزير الخارجية ناصر بوريطة، لم تستوعب بما فيه الكفاية، وبالضرورة اللازمة، مفهوم اليقظة والحزم والتغيير. وقد ظهر ذلك واضحا من خلال ترشيح الوزير للطيفة أخرباش التي، رغم كفاءاتها المتعددة في مجال السمعي البصري، فهي غير متمرسة بالفضاء الدبلوماسي الأفريقي وكذا لا تتوفر على شبكة علاقات تمكنها من استقطاب أصوات لصالح المملكة. فهي ليست شخصية معروفة لدى الأوساط الدبلوماسية الأفريقية. وقد انعكس ذلك من خلال عدم تصويت بعض الدول التي كانت تحسب على أنها داعمة للمغرب لصالح مرشحته، مما يطرح تساؤلات جدية حول التنسيق الدبلوماسي وحسابات التحالفات الإفريقية. كما أن هناك حديث عن إغراءات مالية لبعض الدول للتصويت لصالح المرشحة المنافسة، وهو أمر إن صح فإنه يعكس خطورة المسألة، لأن التصويت داخل الاتحاد الإفريقي يتم عبر ممثلي الدول، وبالتالي فهو يعكس مواقف رسمية وليس قرارات فردية. خاصة أن ممثلة الجزائر قد حصلت على 33 صوتا من أصل 55، وهو ما يمثل النصاب القانوني للفوز. وهنا يبرز التساؤل الأخطر: إذا كان المغرب قد خسر في “تمرين بسيط” كهذا، فكيف سيكون الحال عندما يواجه امتحانا دبلوماسيا أكبر؟
2- عوامل الإخفاق الدبلوماسي
لا يمكن إنكار الزخم الكبير الذي حققته الدبلوماسية المغربية في ملف الوحدة الترابية، خاصة بعد اعتراف دول عظمى ووازنة داخل مجلس الأمن الدولي بمغربية الصحراء، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية—بصفتها صاحب القلم في قرارات المجلس—وكذلك فرنسا، العضو الثاني الذي يتمتع بحق الفيتو وكذا بالاطلاع على جذور وخلفيات هذا النزاع. كما عززت بعض الاتحادات الإقليمية والدولية هذا التوجه، لا سيما إسبانيا وألمانيا، إلى جانب دول أخرى من مختلف القارات، تعد مؤثرة في صناعة القرار الدولي. إلى جانب ذلك، كان هناك توافد غير مسبوق لدول إفريقية وعربية نحو مدينتي العيون والداخلة لافتتاح قنصلياتها، في خطوة تعكس اعترافا رسميا بمغربية الصحراء وترسخ الموقف المغربي داخل المنظومة الإفريقية والدولية. لكن هذا لا يمكن أن يخفي أن النجاح الحقيقي يكمن بالأساس في التواجد بقوة داخل دواليب الاتحاد الإفريقي والتحكم في ميكانيزماته وآليات اشتغاله، حيث أن أكبر انتصار للمملكة هو نجاح الدبلوماسية المغربية في طرد “الجمهورية العربية الصحراوية ” من عضوية هذا التكتل الإقليمي. ولبلوغ هذا الهدف ينبغي التركيز على مرتكزين أساسيين :
– إعادة هيكلة وزارة الخارجية التي لا تتمثل بالضرورة في إعادة تسميتها بوزارة الخارجية والتعاون الافريقي والمغاربة المقيمين بالخارج ، فتغيير التسمية لن يؤثر بالضرورة في تغيير العمل الدبلوماسي أو تجويده، بل الأمر يتعلق بضرورة اختيار دقيق للشخصية الممثلة والقابضة على هذا الجهاز. فوزارة الخارجية التي تعتبر وزارة للسيادة وتشكل مجالا محفوظا للملك لتدبير سياسة المملكة الخارجية، كانت تعين على رأسها دائما شخصيات دبلوماسية من العيار الثقيل كأحمد بلافريج، وعبد اللطيف الفلالي، وعبد الهادي بوطالب، ومحمد بوستة. إذ أن السياسة الخارجية وفن الدبلوماسية ينبنيان على فكر شمولي ونظرة استباقية واللباقة السياسية، وليس على فكر موظف قائم على إبعاد الكفاءات، والتمركز حول الذات، والحسابات الإدارية الضيقة والخبث الإداري. إذ لا يعقل أن وزارة بحجم وزارة الخارجية، والتي تمثل رمزا من رموز سيادتها الخارجية وتخوض حربا متواصلة للدفاع عن القضية الوطنية، وتسعى إلى تكريس المغرب كدولة إقليمية في المنطقة الإفريقية، لم تستكمل أجهزتها الإدارية المركزية، حيث لم يتم لحد الآن، تعيين كاتب عام للوزارة على غرار باقي الوزارات، علما بأن ناصر بوريطة، الوزير الحالي، سبق له أن تقلد هذا المنصب قبل أن يعين وزيرا للخارجية، بل سبق له أن عين على رأس مصالح وأقسام ومديريات داخل هذه الوزارة في الوقت الذي يلاحظ باستغراب شغور منصب مدير الشؤون الإفريقية بهذه الوزارة لفترة طويلة وتهميش المدير العام للشؤون السياسية بالوزارة. في حين يرى البعض أن المندوب الدائم للمملكة بالاتحاد الإفريقي الذي تجمعه علاقة صداقة مع الوزير الحالي لا يتوفر، بالإضافة إلى مرضه العضوي، على الكفاءة المطلوبة لشغل هذا المنصب الحساس، وله خلاف عميق مع سفيرة المغرب بأديس أبابا، بدليل أنها لم تكن حاضرة ضمن الوفد المغربي خلال أشغال القمة. كما كان من المعول في إطار تطعيم حكومة عزيز أخنوش بمجموعة من كتاب الدولة لتخفيف العبء عن الوزراء، تعيين كاتب دولة للشؤون الإفريقية التي تشكل أحد مرتكزات الدبلوماسية الملكية.
– إعادة النظر في آليات اشتغال الدبلوماسية المغربية خاصة داخل هذه الرقعة الإفريقية الحساسة واستيعاب جيد واستباقي لتحركات الفاعلين الإفريقيين داخلها. فهذا الفشل ليس مجرد حادث عرضي، ومهما كانت الأسباب والمسببات أو الاعتبارات، بل هو تحذير يستدعي إعادة ترتيب الأولويات والمسؤوليات، واتخاذ مبادرات أكثر واقعية وبراغماتية، بعيدا عن العاطفة والحسابات الضيقة، وذلك من خلال إعادة تقييم طريقة إدارة التحالفات داخل الاتحاد الإفريقي، والعمل على بناء تحالفات استراتيجية أكثر صلابة مع الدول الأعضاء بدل الاعتماد فقط على الاستثمارات الاقتصادية، وتبني مقاربة أكثر براغماتية في التعامل مع شؤون القارة، تقوم على المتابعة الدقيقة للولاءات السياسية للدول الإفريقية وانتقاء الأطر المتمرسة بدواليب وكواليس أجهزة الاتحاد الافريقي وسبل التعامل في استقطاب الأصوات، والاستفادة من الخبرة الطويلة التي راكمها العديد من أطر الوزارة الذين ساهموا في التحضير لعودة المغرب إلى حضنه الافريقي وشاركوا في التهييئ للزيارات الملكية لعدة دول افريقية سواء بغرب القارة أو شرقها، بدل إقصائهم وتهميشهم من طرف الوزير الحالي لاعتبارات ذاتية أو حسابات شخصية. وقبل هذا وذاك، لابد من التوقف عند ملابسات هذا الفشل لمحاسبة المسؤولين عن الإخفاقات الدبلوماسية كقرار محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الفلاحة والصيد البحري أو الفشل في الحصول على منصب نائب رئيس الاتحاد الإفريقي وغيرها من الأخطاء الدبلوماسية القاتلة التي تشوش على توجهات الاستراتيجية الملكية في بلورة وتدبير السياسة الافريقية للمملكة وعلى رأسها إنهاء قضية الصحراء.
بقلم: د. محمد شقير، محلل سياسي وخبير في الشؤون العسكرية
تعليقات 0