يعتبر درس خصائص القاعدة القانونية، من أهم المبادئ التي يتم تدريسها لطلبة السنة الأولى بكلية الحقوق، والتي مفادها أن القاعدة القانونية تعتبر عامة، ومجردة، ومتغيرة حسب ظروف كل مجتمع، وكل فترة زمنية. أي أن القواعد القانونية بطبيعتها متغيرة وغير جامدة، مواكبة لعصرها وتحولاته، مادامت العلاقات الإنسانية والمعاملات التجارية تتطور بمرور الزمن. ذلك أن الهدف من سن القواعد القانونية، هو تنظيم وتأطير العلاقات الإنسانية، في إطار تشريعي موحد، يضمن حقوق كل أطياف المجتمع في زمن معين.
تغير الوحي
هذه الطبيعة المتغيرة والمتجددة للقانون، لا ترتبط بالقانون الوضعي لوحده، بل حتى في الشريعة الإسلامية، والتي يمكن أن نجد تجلياتها في أربع مستويات:
1 تغير الوحي الإلهي: فإذا كان النص القرآني يعتبر هو الإطار المرجعي الأعلى للمؤمنين بالمرجعية الإسلامية للقانون، كانت قواعده القانونية متغيرة وغير جامدة، بل نزلت آيات وسرعان ما تم إبطال العمل بها، أو رفعت، وهو ما يصطلح عليه فقهيا بالنسخ، والذي نجده على ثلاث أشكال رئيسية: (ما نسخت تلاوته وحكمه، ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، ما نسخت تلاوته وبقي حكمه).
2 إبطال وتغيير التشريعات: رغم أن عددا من الآيات قطعية الحكم والثبوت، إلا أن عددا من الصحابة أو الفقهاء أبطلوها أو غيروها، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب، الذي أبطل حد السرقة (الثابت الدلالة والقطعي الثبوت)، وإذا كان البعض يعترض على هذا بأن الأمر يتعلق بإبطال جزئي، فإن عمر بن الخطاب، أوقف العمل بالأنفال (المغانم الحربية) رغم ورود نص صريح فيها، كما ألغى زواج المتعة، رغم ورود نص صريح يحلله.
3 اجتهادات الفقهاء في النص: رغم أن القاعدة الفقهية تقول “لا اجتهاد في مورد نص”، إلا أن كثيرا من الفقهاء قد خالفوا هذه القاعدة، باستعمال الاجتهاد أو القياس، فأبو حنيفة النعمان خالف كل الفقهاء وسن قواعد قانونية جديدة في عدة قضايا كولاية الزوجة على نفسها في عقد الزواج. والشافعي الذي يعتبر واضع أصول الفقه، أو إمام الفقهاء، وضع قواعد قانونية تخالف النص وروحه، ومن ذلك مثلا إباحة زواج الأب من ابنته من سفاح، بينما خالفه في ذلك عدة فقهاء.
4 تغير العصر ولوازمه: ذلك أنه في عصرنا هذا، تم تعطيل العمل بعدة قواعد قانونية واستبدالها بقواعد وضعية، سواء تعلق الأمر بما يعرف ب”الحدود”، ذلك أن غالبية الدول الإسلامية قامت بتعطيل حد السرقة والزنا والحرابة وشرب الخمر، أو على مستوى تحريم ما ورد نص في جوازه، كملك اليمين، وجهاد الطلب، والجزية على غير المسلم، والاسترقاق والعبودية.
مدونة الأسرة
ورغم أن المغرب كان يعتبر بلدا مسلما، منذ ظهور الإمارات الإسلامية فيه في القرن الأول والثاني للهجرة، إلا أن تاريخ المغرب، عرف تغيير وتعطيل عدة قواعد قانونية وأحكام شرعية قطعية الثبوت والدلالة، دون أن يترتب عليه معارضة وتهديد ووعيد، سواء صراحة أو تلميحا.
وغني عن البيان أن مدونة الأسرة بشكلها الحالي، أصبحت غير قادرة على مواكبة تطور المجتمع، وإيجاد حلول لعدة معضلات لاحت في الأفق، والسادة القضاة ومساعديهم وموظفي وزارة العدل والجمعيات الحقوقية التي تعنى بحماية الأطفال، أكثر إلماما بهذا المشكل، وقد تم دق ناقوس الخطر منذ سنوات. ذلك أن قاعدة الولد للفراش على سبيل المثال، لا تتماشى مع التطور الطبي، فمن غير المستساغ إثبات تحاليل ADN أن الابن من صلب أبيه، غير أنه وفي غياب علاقة زوجية ،لا ينسب لأبيه، و هذا ما يزيد من ظاهرة أطفال الشوارع، ويحرم الطفل من أبسط حقوقه، بالإضافة إلى مصير الأطفال بعد الطلاق، الذين كثيرا ما تضيع حقوقهم بسبب تضارب مصالح الطليق وطليقته، وأنانية الوالدين في كثير من الأحيان، دون نسيان مسألة الولاية الشرعية، وقواعد الإرث، والتي تم سنها منذ أزيد من 1400 سنة، في ظل سياق زمني ومجتمعي معين لا علاقة له بالعصر الحالي، الذي أصبحت المساواة فيه ضرورة حتمية.
خلاصة القول، نحن الآن أمام مفترق طرق، إما أن نسير نحو تجديد وتطوير القواعد القانونية، حتى تتماشى مع تطور المجتمع، أو أن نظل حبيسي قواعد قانونية جامدة تهدم الأسرة من الداخل، وتخلق حالة من التمييز والظلم.
بقلم: الأستاذ محمد بن دقاق، محامي بهيأة الدار البيضاء
التعليقات 0