كم هو صعب نعيك أيها العزيز عمر سليم. بل كم هو صعب تصديق موتك، وتخيل أنك الآن ترقد في قبر بارد، أنت الذي كانت حرارة اللقيا والنقاش والمودة تؤثث جلساتك مع الأصدقاء والمحبين. كيف استطاع الموت المشؤوم أن يخطفك في غفلة منا، ونحن عاجزون عن فعل أي شيء لاستعادتك؟
كيف تقضي لياليك هناك وحيدا في مقبرة؟ أنت “مول الدار الكبيرة” التي لم تكن تخلو يوما من زوار وعابرين… هل ما زلت وفيا لسماع أم كلثوم وترديد أغاني جاك بريل والاستمتاع بصوت سليم الهلالي وعيوط مصطفى البيضاوي؟ هل التقيت أصدقاءك القدامى الذين بكيت رحيلهم بحرقة؟ هل تشتهي هناك طاجين فول بالملج أو بطاطا صغيرة أو مطيشة بالبيض؟ ومع من ستقتسمه أنت الذي لم تكن تحب أن تأكل وحدك؟ هل ترقد على نغمات “حلم” كما هي عادتك؟ أم أن صمت المقابر وأرواح الموتى وحدها تؤنس وحدتك؟
أليس من مجال هناك لتتصفح كتابا لسبينوزا أو تستمع لنشرة أخبار أو تشاهد فيلما فرنسيا من الذي يحبه قلبك؟ هل يوجد هناك من يستمع إلى أحاديثك الشيقة وطرائفك المضحكة ويستمتع بخفة دمك ويقف مذهولا أمام سعة ثقافتك ودقة تواريخك وقدرتك على تجاذب أطراف الحديث في جميع المواضيع، من الدين إلى السياسة والثقافة، مرورا بكرة القدم؟
نعرف أنك “ما سخيتيش بينا”، أنت الذي تكره الموت، ليس لشيء إلا لأنها ستحرمك من عاداتك وطقوسك الجليلة. لكن، هل لمست روحك، من هناك، حيث لا شيء غير المجهول، كم نحبك ونشتاق إلى وجودك بيننا؟ هل تعرف أننا أيضا “ما سخيناش بيك”، وأننا نشاهد “الفيديوهات” والنشرات ونقرأ الأخبار عن موتك وتشييع جثمانك مذهولين غير مصدقين، معتقدين أنك ستطل علينا بابتسامتك الطفولية البريئة وأنت تضحك في وجوهنا قائلا قولتك الشهيرة “هاك آ حمييييييييييييييدة”؟ قبل أن ننفجر معك ضحكا ونقرع كأس عودتك إلينا ساخرين من الصمت والغياب؟
نعرف أن لكل أجل كتاب. لكننا كنا نظنك خالدا لا تموت. نحن الذين لم نكن نتقبل مرضك فبالأحرى رحيلك الأبدي عنا، أنت سليم بن عمار، مثلما كنت تصحح لنا حين نناديك عمر، فخورا بأصولك الشرقاوية وبانتماءك إلى هذا الوطن الذي أعطيته الكثير ورفضت أن تغادره رغم الخيبات والمرارات، مصرا على أن تظل وفيا له إلى النفس الأخير.
لا شيء يعزينا في رحيلك، سوى أنك عشت الحياة بحذافيرها، واضعا كرامتك فوق كل اعتبار، رافضا أن تتنكر لمبادئك أو تبيع نفسك بالرخيص، مكتفيا بالقليل من المال والكثير من عزة النفس والترفع والصدق في القول، حتى ولو كان على حساب مصلحتك.
كنت كتابا مفتوحا، عكس أولئك الذين يحسبون الحساب لكل كلمة أو همسة. كنت طفلا، تسعد لالتفاتة بسيطة وتبكي لنبرة كمان حزينة وتشهق فرحا لقصة جميلة أو مناسبة سعيدة أو لقاء جديد. تحب الحب والفرح وتنثر السعادة من حولك. تكره السلبية والحزن والتشاؤم حتى ولو كانت الحياة مكشرة عن أنيابها في وجهك. حاربتها دائما بابتسامة إلى أن انتصرت عليك بقسوتها ورمتك إلى غياهب القبر والظلام وحرمتنا من روحك الجميلة.
آه كم هو مؤلم فراقك… وصعب نسيانك. وكم تستعصي الكلمات أمام لوعة وحرقة غيابك، ويغيب الإيمان بحتمية الأقدار أمام هول صدمة موتك… أيها العظيم في تواضعك، الكريم في صداقتك، الجبار في صدق أحاسيسك ورهافة قلبك. نستودعك على أمل اللقاء بك، في حياة أخرى، ربما، لأن هذه التي تركتنا لها، لا يمكن أن تجود بمثلك. نستودعك متمنين أن تكون روحك مرتاحة، وأن تظل ترفرف على جلساتنا وسهراتنا التي لا بد أن نشرب فيها نخبك، مرددين مع حبيبتك أم كلثوم
“سكوت وسكون وإيه حيكون”
“ما فيش غير النجوم تضوي ولا غير القمر ناظر”
“ولا غير الغصون تهمس ولا غير النســـيم عابر”
التعليقات 0