آش نيوز - الخبر على مدار الساعة - اخبار المغرب وأخبار مغربية

H-NEWS آش نيوز
آش نيوز TV18 يناير 2025 - 09:01

مدونة الأسرة.. مناقشة دينية وفقهية في رفض الخبرة الجينية

يوسف المساتي

أصدر المجلس العلمي الأعلى رأيه في قضية إجراء الخبرة الجينية لإثبات النسب، رافضا إياها باعتبارها متعارضة مع نص قطعي الثبوت. وهذا الرأي لا يخلو من تناقضات وأخطاء تتعارض مع المقاصد الشرعية، مما يستدعي التوقف عنده ومناقشته من أوجه عدة فقهية ودينية. وهو ما تسعى إليه هذه المساهمة وما قد يتبعها. مع الإشارة إلى أنه لن يتم التفصيل في المناقشات الفقهية هنا، بل سيتم إيراد مقدمات أولية ستفصل في مساهمات لاحقة. كما أن بعض المفردات، مثل الزنا والسفاح …إلخ، الواردة في هذه المساهمة لا تعكس أي حكم قيمة، بل هي مفردات فقهية تم الاحتفاظ بها في سياقها.

إثبات النسب في حالة الزنا وزواج الأب من ابنته

يقوم الفقه الإسلامي على أن إثبات النسب مرتبط بالزوجية، حيث يلحق الابن بالزوج، لكن الأمر يختلف في حالة العلاقات خارج الزواج أو ما يعرف فقها بالزنا، الذي تم تحريمه انطلاقا من علة منع اختلاط الأنساب. ومع ذلك، سن الفقهاء قاعدة إلحاق الأطفال خارج الزواج بأمهاتهم فقط، وتسقط حقوقهم في الأب، انطلاقا من قاعدة أن “السفاح” لا يوجب الأبوة. وهذا ما جعل الشافعي، واضع أصول الفقه، يجيز للأب أن يتزوج ابنته من “سفاح”، في نص صريح قال فيه: “فإن ولدت امرأة حملت من الزنا ‌اعترف ‌الذي ‌زنا ‌بها ‌أو ‌لم ‌يعترف ‌فأرضعت ‌مولودا فهو ابنها ولا يكون ابن الذي زنى بها وأكره له في الورع أن ينكح بنات الذي ولد له من زنا كما أكرهه للمولود من زنا وإن نكح من بناته أحدا لم أفسخه لأنه ليس بابنه في حكم رسول الله” (الأم، الشافعي، ج5، ص 32).

ويحار العقل هنا كيف تكون العلة هي منع اختلاط الأنساب وفي نفس الوقت يجاز زواج الأب بابنته؟ أليس هذا مخالفا للطبيعة الإنسانية، وبالأحرى “الدينية”؟ يغيب الطفل في هذا التشريع وتسقط حقوقه، رغم أنه لا وزر له في ذلك، ويتحمل جريرة ما لا ذنب له فيه، ويصبح محروما من حقوقه وميراثه ونسبه. بل يمكن للأب أن يتزوج ابنته أو أخته… الخ لمجرد أنها ابنة “سفاح”! فأين حفظ مصالح الطفل والطفولة؟ بل إنهم في الجاهلية كانوا يعملون بمبدأ الاستلحاق حفظا للأنساب.

قطعية حديث الولد للفراش وتعارضه مع صريح القرآن

اعتمد الفقهاء في رفضهم للخبرة الجينية على الحديث الوارد في صحيح البخاري ومسلم والذي ورد فيه: “عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عتبة بن أبي وقاص، عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص: أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: ابن أخي، قد عهد إلى فيه، فقام عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي، كان قد عهد إلى فيه. فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو لك يا عبد بن زمعة). ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (‌الولد ‌للفراش وللعاهر الحجر). ثم قال لسودة بنت زمعة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (احتجبي منه). لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله. (البخاري، ج 2، صص 724-725).

ورغم أن هذا الحديث يروي حادثة محددة، ويعتبر على مستوى السند من أحاديث الآحاد، إلا أنهم اعتبروه نصا قطعي الثبوت والدلالة أيضا، رغم أن عبارة “وللعاهر الحجر” جاءت عامة ولم تورد نصا شرعيا بل تركت مفتوحة، وهو ما جعل المجال مفتوحا للفقهاء للاختلاف حوله.

لكن ومع ذلك، سيقفز الفقهاء على كل هذا ويعملون قاعدة “لا اجتهاد في مورد نص” وهي القاعدة الفقهية التي سنها الشافعي (الذي أجاز زواج الأب بابنته)، دون انتباه أن هذا الحديث كانت غايته أصلا إثبات النسب وحفظ حقوق الطفل في نسبه.

كما أن الفقهاء لم ينتبهوا إلى أن هذا الحديث يتعارض مع نص قراني صريح بدوره، إذ ورد في الآية الخامسة من سورة الأحزاب: “ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله. فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم”، وتنص هذه الآية “الصريحة المحكمة” على تحري النسب الصريح للأبناء، وإلحاقهم بآبائهم “البيولوجيين” في حالة معرفتهم، وهو ما يلتقي مع قاعدة حفظ الأنساب، فكيف يعمل بحديث آحاد نقيض لهذه الآية؟ أليس من أبجديات الفقه الإسلامي إلغاء العمل بأحاديث الآحاد إذا تعارضت مع صحيح النص، فكيف إذا تعارضت مع صحيح النص والمقصد والفطرة؟

اللعان نفيا للنسب

يجيز الفقهاء الرافضون للخبرة الجينية لإثبات النسب أو نفيه مبدأ اللعان، أي أن يحلف الرجل أربع مرات أن الابن ليس ابنه، وتحلف المرأة كذلك، وقد أوردت كتب التراث آلاف الروايات بهذا الخصوص، فقد جاء في المدونة “عن رجل تزوج امرأة فلم يجمعها إليه حتى حملت، فقالت: هو من زوجي وكان يأتيني في أهلي سرا فيغشاني وأسرته من أهلي فسئل زوجها فقال: لم أغشها، وقال أنا من ولدها بريء. قال ابن شهاب: سنتها سنة الملاعنة، نرى أن يتلاعنا ولا ينكح حتى تضع حملها ولا يجتمعان أبدا وولدها يدعى إلى أمه ومن قذفها جلد الحد. (المدونة، ج 2، ص 353).

وهكذا يسقط النسب، وينفى الابن من النسب فقط لأن “والده” حلف أنه ليس ابنه، وذهب الشافعي إلى ترجيح كفة إسقاط النسب باللعان ضد إثباته بالفراش، حيث قال “حديث الولد للفراش ثابت وكذلك حديث نفي الولد باللعان، والحديث أن النبي نفى الولد عن المتلاعنين وألحقه بأمه أوضح معنى وأحرى أن يكون فيه شبهه من حديث الولد للفراش” (اختلاف الحديث، ص185).

وتغيب هنا قاعدة حفظ الأنساب، بل يحضر نفيه، وتغيب قاعدة درء الشبهات التي يستند إليها في تشريع الحجاب مثلا، لصالح تأكيدها بناء على الحلف واليمين، الذين يسهل نكثهما والكذب فيهما، فكيف تراعى مصالح الأسرة والطفل؟ وكيف تحفظ الأنساب؟

القيافة .. نعم .. الخبرة الجينية .. لا

رفض الفقهاء الخبرة الجينية استنادا إلى نصوص “قطعية”، لكن كثيرا من هذه النصوص عملت بمبدأ التشابه الفيزيولوجي أو ما يعرف فقهيا ب “القيافة”، وفي مقدمتها حديث الولد للفراش، الذي وردت فيه عبارة “ثم قال لسودة بنت زمعة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (احتجبي منه). لما رأى من شبهه بعتبة”(البخاري، ج 2، صوص 724-725)، أي أن النبي بنى حكمه على التشابه الموجود بين عتبة وابنه.

كما أورد الشافعي عن إحدى حوادث اللعان: “ذكر حديث المتلاعنين فقال: قال النبي انظروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين فلا أراه إلا وقد صدق عليها، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذبا قال: فجاءت به على النعت المكروه. (الأم، الشافعي، ج5، ص 134). وورد في صحيح مسلم الذي يعتبر من أصح كتب الحديث، عن عائشة “أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا، تبرق أسارير وجهه. فقال “ألم تري أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد. فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض”. (صحيح مسلم، ج 2، ص 1081).

كما ورد في الموطأ الذي يعتبر مرجعا في الأحكام للفقهاء المالكية، والذي يفترض أنه المذهب الرسمي لفقهاء المجلس العلمي الأعلى وللبلاد، أنه ورد عن عمر ابن الخطاب: “أتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا عمر قائفا، فنظر إليهما، فقال القائف: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر بالدرة، قال: ما يدريك؟ ثم دعا المرأة، فقال: أخبريني خبرك؟ فقالت: كان هذا لأحد الرجلين يأتيها، وهي في الإبل لأهلها، فلا يفارقها حتى يظن وتظن أن قد استمر بها حمل، ثم انصرف عنها، فهرقت الدماء، ثم خلف هذا، تعني الآخر، ولا أدري من أيهما هو؟ قال: فكبر القائف، فقال عمر للغلام: وال أيهما شئت. (موطأ مالك، ج2، ص 464).

ويظهر من كل هذه الأدلة أن مبدأ القيافة أو التشابه الفيزيولوجي كان محددا في الإلحاق، بما قد ينطوي عليه أحيانا من إشكالات، ومن ثم اللجوء لشهادة الأم، فكيف الحال بالخبرة الجينية الوسيلة العلمية الأدق والأكثر فعالية لتحديد الأنساب وحفظ الحقوق؟

يتضح مما سبق أن الفقهاء الرافضين لمبدأ الخبرة الجينية، لا يتعارضون مع المقاصد الأساسية للدين، وما تقضيه سبل التطور فقط، ولكنهم يسهمون في ضياع الحقوق، واختلاط الأنساب، ويحملون أطفالا لا وزر لهم جريرة فهمهم الضيق والمحدود للنصوص، ويتعارضون بذلك مع صحيح النص القرآني وغاياته، وغاية أي إنسان.

يوسف المساتي: باحث في التاريخ والآثار والتراث

Achnews

مجانى
عرض