رسالة إلى جامعة ابن طفيل.. دعوة للإنصاف والمصالحة مع أدب وشعر الملحون المغربي

اطلعت بالصدفة على خبر تنظيم جامعة ابن طفيل وكلية اللغات والآداب والفنون وفريق بحثها في الأدب المغربي الحديث والمعاصر، بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الأستاذ الدكتور عباس الجراري، لندوة علمية تحت عنوان: “الجامعة المغربية تحتفي بعميد أدبها” وذلك يوم الأربعاء 21 ماي 2025 بمدرج الندوات بكلية اللغات والآداب والفنون بمدينة القنيطرة.
وقد فكرت مليا في توجيه رسالة إلى المشاركين في هذه (الندوة العلمية) – وقد سبق لي أن قدمت عرضا في 18 أبريل الماضي، بدعوة كريمة من مؤسسة عبد الله بن عباس الجراري للفكر والثقافة بالرباط، تحت عنوان: “جفريات” الدكتور عباس الجراري أو الرؤية الاستشرافية لحماية وصون وتثمين تراث الملحون المغربي – إغناء مني لأشغال الندوة، في محاول مني للإحاطة بمسار عالم دارس مدافع عن قضية التراث عموما وعن الشعر العامي المغربي وعن درس الملحون خاصة؛ ضمن مشروع متكامل هدفه حماية وصون شعر الملحون في أفق دراسته وتحقيقه وتثمينه.
ورغم أن الإحاطة بإسهامات الدكتور عباس الجراري أمر صعب جدا، فهو العالم الموسوعي الحداثي الدارس والباحث الأكاديمي، والأستاذ المدرس والفقيه الخطيب المفوه والشاعر الأديب، وكلها أوصاف تعبر عن إسهاماته بفكره المجدد في الحياة الثقافية العربية والمغربية، فإن ما تفرد فيه خلال عقود خلت، انطلقت من ستينيات القرن الماضي إلى أيام قبل وفاته رحمه الله في 20 يناير 2024، هو مشروعه التأسيسي البحثي العلمي حول شعر الملحون المغربي.
إذ كانت له تصورات عديدة منذ أزيد من 60 سنة، انطلاقا من بحثه المسلسل عن “الفلكلور” في “مجلة دعوة الحق” سنة 1962م، مرورا بإصداره لمؤلف “الزجل في المغرب، القصيدة”[1] سنة 1970م، واصدارات أخرى لامست جوانب متنوعة ارتبطت بشعر الملحون، ومراجعات للعديد من الأفكار والأخبار حول درس الملحون، تضمنتها مقدمات دواوين “الموسوعة” التي أشرف عليها، وأصدرتها أكاديمية المملكة المغربية، ومواكبة العديد من التظاهرات واللقاءات الإقليمية لبعث وإحياء حواضر الملحون بالمغرب، إلى إدراج منظمة اليونسكو للملحون ضمن القائمة التمثيلية للتراث اللامادي للإنسانية في 6 دجنبر 2023 ببوتسوانا.
ولعل أول هذه التصورات وأهمها، العمل على تحقيق فتح ولوج درس الملحون لمدارج البحث العلمي الأكاديمي، يستهدف كتابة التاريخ الشامل للأدب المغربي وكل الإبداعات العامية (الأمازيغية والحسانية وكل أصناف الأدب الشعبي) ضمن الدراسات الأدبية بالجامعة المغربية. ولتحقيق ذلك خاض نقاشات كثيرة ومريرة أحيانا، كما أشار إلى ذلك في كلمة افتتاحية بمناسبة تكريمه بجامعة شعيب الدكالي في 14 مارس2001 بقوله:” يوم كنت أشتغل بالملحون منذ أكثر من ثلاثين سنة وجدت العوائق والعراقيل وصلت إلى حد الاستهزاء بهذا الموضوع وزادت هذه العوائق حين حاولت مرارا أن أدخل موضوع الدرس الشعبي في مقررات الجامعة”. ويضيف: “مع ذلك وبهذا الروح النضالي الذي كنا نسير به في الجامعة، كنت أحاول بالتحايل أن أدخل بعض النصوص في سياق الأدب المغربي المدرسي للفت انتباه الطلاب لأهمية هذا النص”.
إن الرؤية الجَرَّارية لحماية تراث الملحون وصونه راهنت في بداياتها على الجامعة المغربية والبحث الأكاديمي كركيزة علمية أساسية لفتح الباب على مصراعيه لجمع ودراسة شعر الملحون وباقي فروع الثقافة الشعبية المغربية. لكنه فَتحٌ ازدادت فيه العوائق والعراقيل حين حاول مِرارا إدخال موضوع درس الملحون في مقررات الجامعة، بل ذهب إصراره إلى حد “التحايل” لإدخال بعض النصوص في سياق درس الأدب المغربي.
وقد طالب ساعتها جامعة شعيب الدكالي وعميد الكلية والأساتذة بتخصيص شعب وتخصصات لدرس الملحون بقوله: “ونحن هنا مع سيادة عميد الكلية ورئيس الجامعة والأساتذة… لا أكتفي بأن أسجل هذا التقدير، ولكني أطالب وأرغب إلى كلية الآداب بصفة خاصة أن تنشئ شعبة للتخصص ووحدة للتخصص في الدراسات الشعبية يكون من بينها الملحون، لقد حان الوقت، ونحن نبحث عن تراثنا ونبحث عن شخصيتنا ومقومات هويتنا، ونحن ربما نتصارع في الساحة من أجل هذه الهوية بعلم مرة وبجهل أخرى، أن نفتح المجال للأنماط التعبيرية الشعبية من خلال الدرس العلمي ومن خلال البحث الجامعي وأن نشجع على ذلك”.
وفي مهرجان فاس الأول، الذي خصص دورته للدكتور عباس الجراري في أكتوبر 2001، وجه رسالة مكتوبة تضمنت في ختامها مجموعة من التوصيات كانت أهمها “الدعوة إلى العناية بالملحون وسائر أشكال التراث الشعبي، والعمل على إدخالها في مقررات معاهد الموسيقى وكليات الآداب، إن لم أقل في المقررات المدرسية عامة”.
دعوة للإنصاف والمصالحة مع التراث الشعري للأمة المغربية
إن المتأمل في 65 سنة من مسار الدكتور عباس الجراري، من خلال كتاباته ودراساته وأبحاثه، تستقر لديه قناعة بأن الصراع الحقيقي الذي خاضه طوال تلك العقود راهن على الجامعة المغربية لما تشكله من ضمان لاستمرارية البحث الأكاديمي وتحقيق تراكمات معرفية علمية حول شعر الملحون ستساهم لا محالة في جمع شتاته وتحقيق نصوصه وكتابة تاريخه الممتد عبر خمسة قرون.
ولعل قمة الوفاء لروحه وفكره ومشروعه الثقافي الوطني الهوياتي الذي ناضل من أجله إلى أخر أيام حياته، وجامعة ابن طفيل ودكاترتها يحتفون بعميد الأدب المغربي، أن تنصفه وتتصالح معه ومع التاريخ الأدبي الإبداعي للأمة المغربية، وذلك بالاستجابة لدعواته المتكررة ونضاله؛ بتخصيص شعبة للأدب المغربي المُعرب والعامِّي وضمنه مادة خاصة بشعر الملحون المغربي.
فلا يعقل أن تستمر الجامعة المغربية وجامعة ابن طفيل التي تنظم هذه اللقاء حول عميد الأدب المغربي؛ في التنكر لتاريخ إبداعي لأكثر من 500 شاعر مغربي و5000 قصيدة شعرية تناولت أغراضها ومواضيعها كل مناحي الإنسان المغربي، وإصدار 11 ديوانا و4 تحت الطبع من طرف أكاديمية المملكة المغربية لشعراء الملحون المغاربة. شعرٌ اعتبره الدكتور عباس الجراري تعبيرا عن العبقرية الإبداعية للمغاربة.
وهو تراث تتحمل الجامعة المغربية وِزر ضياعه وسرقته وتزويره بعدم استجابتها. كما أن المسؤولية تقع على الباحثين والدارسين الجامعيين في ابتعادهم وزيغهم عن المنهجية البحثية العلمية الرزينة والرصينة المطلوبة في الممارسة النقدية التي تعتبر الرهان الأساسي للرفع من مستوى البحث العلمي وقيمته بعيدا عن المحاباة والمجاملة.
بقلم: عبد الإله جنان (دارس لتراث الملحون آزمور)
تعليقات 0